ملف المصالحة الفلسطينية من جديد: سويسرا القاطرة والربان

    0
    1427

    تشهد العاصمة السويسرية جنيف هذه الأيام حوارات حيَّة ولقاءات على مستويات قيادية بين وفدي من فتح وحماس وشخصيات فلسطينية أخرى وازنة لمتابعة ملف المصالحة والقضايا الفلسطينية المتعثرة،

    وهو لقاء يستكمل ولو بشكل آخر ما سبق من اجتماعات مشكورة في القاهرة والدوحة لم يكتب لها التوفيق في الوصول لحلِّ كل القضايا المتعلقة بهذا الملف، حيث بقيت قضية رواتب الموظفين عقبة عصيَّة على الحل، بالرغم من المقترح السويسري، الذي وضع أسساً لتصورات عملية لتجاوز هذه المشكلة، ولحلحة الملف قبل أكثر من عام تقريباً.

    صحيحٌ، أن الدعوة للأطراف جاءت من خلال مركز مسارات كراعي لهذا النشاط، أسوة بتحركات أخرى مميزة يقوم بها المركز، من خلال مجموعات عمل وتفاكر فلسطينية في الداخل والخارج، إلا إن ديناميكية الرؤية والحرص على الإنجاز تقف خلفها جهات في الخارجية السويسرية، والتي لم تتوقف مساعيها منذ بدأنا العمل معها عقب تشكيل حكومة إسماعيل هنية في مارس 2006.

    لم تتوقف الاتصالات السويسرية النشطة في البحث عن مخارج وحلول لهذه الأزمة، واستمرت اللقاءات في الدوحة وغزة إلى أن توفرت القناعات لدى فتح وحماس بإمكانية التوصل لصيغة حل ينهي الخلاف حول قضية رواتب الموظفين.

    لقد سبق لي التعامل مع السويسريين منذ عام 2006 في ملفات تتعلق بالحالة السياسية الفلسطينية، وقد وجدت لديهم حرصاً على تقديم المبادرات وبذل الجهود، لتحريك الأوضاع باتجاه إيحاد حلٍّ سياسي أفضل من كل ما تمَّ تقديمة من مواقف ومبادرات غربية أخرى، وبرهنت سويسرا أنها فعلاً دولة غير منحازة وتمارس الحياد بعطائه الإيجابي، وأنها تتعامل مع القضية الفلسطينية بكل أبعادها السياسية والحقوقية والإنسانية.

    هذا اللقاء في جنيف بين وفدي فتح وحماس وأطراف فلسطينية أخرى ليس لسحب ملف المصالحة الفلسطينية من مصر أو الدوحة، بل هو مسعى مشكور لتجاوز مشكلة ملف رواتب الموظفين بالدرجة الأولى، وإذا ما سارت الأمور بشكلها الصحيح ربما البحث عن صيغ ومخارج تجعل فرص الحل قريبة جداً لتشكيل حكومة وحدة وطنية، لن تكون القاهرة والدوحة بعيدة عنها.

    سويسرا والملف الفلسطيني: محاولات سياسية وإنسانية لا تتوقف

    قبل عام ونصف تقريباً، كثر الحديث عن ذكر سويسرا ومبادرتها المسماة بخارطة الطريق، للخروج من حالة المراوحة في المكان التي مررنا بها كفتح وحماس، حيث بدا أن كل شيء تعاقدنا عليه كفلسطينيين غير قابل للتصديق أو التطبيق، فلا حكومة الوفاق برئاسة د. رامي الحمد الله أنجزت ما كُلفت به، ولا تبدو أنها معنية بذلك، ولا مشاريع الإعمار الموعود ظهرت له معالم وآثار في قطاع غزة المدمر، والحصار الظالم ما زال ضارباً أطنابه في كل أنحاء القطاع، والناس تسأل هل إلى خروج من سبيل؟

    إن خارطة الطريق السويسرية (Roadmap) كانت تبدو لجمهور الشارع الفلسطيني عام 2015 بأنها طوق النجاة الوحيد المتاح لاستنقاذ الحالة الفلسطينية من الغرق. لذا، فالكل كان يسأل: هل تمَّ التراضي والاتفاق بين جميع مكونات الحالة السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أم ما تزال هناك عقبات وتحفظات لهذا الفريق أو ذاك؟

    كان هذا السؤال المشروع على ألسنة الناس وجمهور النخب الفكرية والفصائلية هو في الحقيقة “مربط الفرس” وبيت القصيد في كل نقاشاتنا السياسية، حيث تظهر دائماً اعتراضات أو تمنعات هنا أو هناك، فالكل يظن أن السياسة هي طريق الوصول إلى تحقيق الغايات، وما تتطلع له الفصائل والأحزاب من مكاسب وامتيازات، وليس الاتفاق في الوصول إلى أرضية مشتركة، حيث يُقدم كل طرف من خلالها بعضاً من التنازلات، بهدف بلوغ نقطة اللقاء والارتقاء أو منتصف الطريق حيث تعانق المواقف والخطوات.

    إن ما كان السويسريون يحاولون الوصول إليه من خلال خارطة الطرق هو هذه النقطة من التوافق واللقاء، والتي هي – ربما – خارج توقعات الجميع، ولكنهــــا تخرجهـــــم جميعــــاً من حالــــة التخبـــط والمــــراوحة فــــي المكــــان (stillstand)، وتسهم في لحلحة الأمور إيجابياً، والابتعاد عن مربع الأزمة الخانق إلى مساحات جديدة يستطيع فيها كل طرف بناء لبنة من الثقة بالآخر.

    إن خارطة الطريق السويسرية – كانت وما تزال – هي محاولة من طرف مشهود له بصدقية مواقفه، ونزاهة سياساته تجاه الحالة الفلسطينية، وبالحيادية الايجابية التي هي علامة عالمية مميزة لهذا البلد العريق بمواقفه وواقعية مبادراته السياسية، ودرجة الجدارة في الإنجاز.

    للأسف، كان هناك من يحاول تفريغ المبادرة من محتواها، والدخول في تفاصيل ليست في وارد من وضعوها، وهي في الحقيقة لم تخرج عن اجتهادات طرف محايد ونزيه، حاول التشاور مع الجميع، واستكمل ملامح الرؤية للخروج من نفق الأزمة الطويل، ليأخذ بأيدينا جميعاً إلى بر الأمان، وذلك عبر إيجاد حلِّ عملي لمشكلة الموظفين العالقين لأسباب مختلفة، وإن كان ظاهرها فنياً وإدارياً، ولكن العارفين ببواطن الأمور يدركون أنها سياسية بامتياز.

    إن الورقة من حيث ما تضمنته من مبادئ وأفكار وأسس توزعت بين نصوصها وفي سياق ديباجتها هي محل إجماع الكل الوطني والإسلامي، ولا اعتراض كلي من أي جهة عليها، وحتى البند المتعلق بموضوع “التشييك الأمني” فمن السهولة تجاوزه، من خلال تسريح البعض على قوائم المتقاعدين، دون التوقف أمام دواعي وأبعاد هذه المغادرة الطوعية للسلك الوظيفي.

    لا شك أن الكثير من المماحكات والاعتراضات على المبادرة السويسرية – آنذاك – لم تأت من أطراف دولية، ولكن – للأسف – جاءت من جهات محلية لتعقيد مخارج الرؤية والحل، وإبقاء الجرح الفلسطيني نازفاً – بدون تضميد – حتى تقع الكارثة، وتنكسر شوكة الجهاد والمقاومة، وتنحني غزة عنوان البطولات والعزة، ويُفرَّغ القطاع من معاني الصمود والنخوة.

    نعم؛ كانت هناك تحفظات، ولكن – أيضاً – كانت هناك تصورات وأفكار خلاقة لتجاوز الأزمة إذا ما توفرت الإرادة السياسية، فالقضية ليست بمنطق أن تقبل هذا الكل – كما هو – أو تتخلى عنه.. لا؛ هناك مجالٌ للمراجعات وإمكانيات التوافق، حتى نتجاوز عنق الزجاجة، ونصل إلى فضاء الرحمة والتغافر، لاستنقاذ شعبنا، والأخذ بيديه بعيداً عن الفاقة ومهاوي الردى.

    الموقف السويسري: محطة سياسية وإنسانية جديرة بالتقدير والاحترام

    خلال زيارة الرئيس (أبو مازن) للعاصمة السويسرية بيرن، ولقائه في التاسع من مارس 2015 الرئيسة “سيمونيتا سوماروغا”، التي أكدت في مؤتمر صحفي مشترك استمرار جهود بلادها في استعادة الوحدة الفلسطينية بين السلطة الوطنية وحركة حماس من خلال ما تعرف بـ(خارطة الطريق) لتعزيز التكامل بين السلطة في الضفة الغربية والإدارة المدنية في قطاع غزة.

    وقالت سوماروغا: إن “بلادها تدعو إلى المصالحة الفلسطينية، والهدف يجب أن يتمثل في أن تكون حكومة الوفاق الوطني مستعدة وقادرة على ممارسة سلطتها في غزة بفعالية وهذا شرط أساسي في إعادة إعمار غزة.”

    وأضافت بأنه يمكن لـ(خارطة الطريق لحل مشكلة الموظفين في غزة) أن تمهد لذلك، وهي الخارطة التي تمَّ وضعها بناء على تفويض لرئيس الوزراء الفلسطيني بعــــد المشاورات فــــي رام الله وغزة”، مبينة أن هدف هذه الخارطة هو دمج الإدارة المدنيــــة فــــــي غــــــــزة ودعمها مـــــع إعطـــاء الأولوية فـــــي ذلك لقطاعـــــي التعليم والصحة.

    وقالت سوماروغا إن “من أركان سياستنا الخارجية توفير التدابير الداعمة للسلام والتعاون التربوي والمساعدات الإنسانية.”

    وأشارت إلى أن تحقيق السلام الدائم يرتكز – أيضاً – على مسائل حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، فهي كلها أشياء جوهرية، وهذه المجالات التي تبذل سويسرا فيها تقليدياً مساعي حثيثة.

    لم تكن هذه المبادرة هي الأولى التي تقدمت بها سويسرا من أجل التخفيف عن معاناة الفلسطينيين والبحث عن حل لقضيتهم، فقد سبق أن عرضت مقترحاً لإنهاء الاحتلال في عام 2006، إلا أن إسرائيل عارضت ذلك ورفضت الطرح السويسري، الذي لقي اهتماماً عالمياً وقبولاً دولياً.

    كما أن سويسرا قامت بالتصويت في الأمم المتحدة لصالح منح فلسطين صفة دولة مراقبة في المنظمة الدولية، كما أنها بذلت جهوداً مشكورة لعقد مؤتمر الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة في ديسمبر 2014 بمدينة جنيف، وذلك بحكم مسؤوليتها كدولة مودعة لهذه الاتفاقية، كما أنها تعتبر من أوائل الدول الداعمة لـ”حل الدولتين”.

    وبحكم موقعي السابق كمستشار سياسي ووكيل لوزارة الخارجية، أسجل شهادتي للتاريخ بأن سويسرا هي أول من قادت حملة دبلوماسية نشطة بعد الانتخابات الفلسطينية في يناير 2006، بهدف تسويق الديمقراطية الفلسطينية أوروبياً،  والتمكين لحركة حماس – التي فازت بالأغلبية فيها – من القبول، والعمل على فتح الأبواب لها في الساحة الغربية والمحافل الدولية، كما أنها تعهدت بالرعاية والاحتضان للكثير من اللقاءات التي تمت بين بعض قيادات الحركة ووزرائها وشخصيات اعتبارية غربية رسمية وغير رسمية، بهدف خدمة السلم والأمن العالميين، وقد كنت مشاركاً في البعض منها.

    إضافة لكل ما سبق، فإن سويسرا لم تبخل عن تقديم الدعم المالي للسلطة، وأيضا لتغطية الكثير من الجهود الإغاثية والمساعدات الإنسانية التي أعقبت العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة.

    إننا نسجل اعتزازنا بهده الدولة التي شرَّفت العالم بحيادها الإيجابي، ونجد ارتياحاً في التعامل معها، والاطمئنان لجهودها السياسية الخيّرة، التي لم تتوقف أو تغيب عن ساحتنا الفلسطينية.

    نأمل أن يتمخض هذا اللقاء الذي يجري حالياً في جنيف عن مخرج وحلٍّ لملف المصالحة الفلسطينية، وخاصة ملف رواتب الموظفين في قطاع غزة، حيث إن هذا اللقاء قد تمَّ الإعداد له بشكل جيد، وعلى مدار عدة شهور، وتتعهده من خلف الكواليس دبلوماسية سويسرية نشطة، قد عقدت العزم على مساعدتنا وتقديم مساهمة تخرجنا من سجالات المناكفة والخلاف، التي شرذمتنا وباعدت بيننا، وبددت قوانا، وجعلتنا في حالة من العجز واليأس والقنوط أمام تغول دولة الاحتلال الغاصب، والذي يتربص بنا وبأرضنا الدوائر، ويعمل ليل نهار لشطب كيانيتنا من الوجود.

    LEAVE A REPLY

    Please enter your comment!
    Please enter your name here